مع التسليم بحاجة الوزراء إلى مستشارين يقدمون الرأي والمشورة، ويساعدون في صناعة القرار، تبقى المشكلة في تغول أعدادهم واتساع صلاحياتهم، حتى تجاوزت الحدود المنطقية، رغم تواضع إمكانيات أغلبهم، مما جعلهم عبئاً على الوزارات والجهات الحكومية، وعائقاً أمام الإنجازات.
ولا يختلف اثنان على أهمية وجود مستشارين في الوزارات والجهات التابعة لها من أصحاب الكفاءة والخبرة، إلا أن المبالغة في أعدادهم واتساع أدوارهم خلقا حالة من التضخم الإداري غير المنتج، لاسيما حينما يكلف مستشار واحد بالعمل في أكثر من وزارة وأكثر من جهة، وكأنه «المنقذ الوحيد»، ليتحول موقع المستشار من دور داعم إلى سلطة موازية.
ورغم استعدادات الوزارات والجهات الحكومية لاعتماد هيكل تنظيمي جديد، تنفيذاً لقرار ديوان الخدمة المدنية، فإن أغلب الوزارات باتت تعاني من هيكل مواز نشأ خارج الأطر الرسمية، متمثلاً فيما يعرف باسم «مستشاري الوزير»، متمتعين بصلاحيات أكبر من القيادات الأساسية للوزارة، دون أن يخضع للهيكل الأساسي أو يحاسب ضمنه على ما يشوب العمل من إخفاقات.
ومع كل حكومة جديدة أو تعديل وزاري، لا تتجه الأنظار في الوزارات إلى الوزير الجديد، بقدر ما تركز على من يأتي معه من «الخارج»، وسط تخوفات من أن يكون القادمون سبباً في تفاقم الأوضاع لا إصلاحها، وتكريس المشكلات لا حلها.
والمفارقة، بحسب ما يرى المراقبون، أن رحيل الوزير غالباً ما يقابل بارتياح داخل أروقة وزارته، ليس لذهابه شخصياً، بل للخلاص من فريقه الاستشاري، الذي أثقل كاهل العمل وأربك الهيكل، وإن كانت فرحتهم لا تكتمل، حيث سرعان ما يأتي وزير جديد بفريق آخر، لا يقل خطورة عما سبقه.
وبدلاً من اللجوء إلى «الحد الأدنى» من المستشارين عند الضرورة، لوحظ وبحسب المراقبين توسع بعض الوزراء في الاستعانة بالمستشارين من خارج كوادر الوزارة، عبر اصطحاب أشخاص لا يعرفون طبيعة العمل الداخلي، ولا يخضعون للتراتبية الإدارية، لكنهم سرعان ما يتحولون إلى مراكز نفوذ تتجاوز الوكلاء والوكلاء المساعدين، وتعيد رسم المشهد التنفيذي «على كيفهم» من خلف الستار، بما يشوه العمل المؤسسي ويضعف أداء الجهات التابعة.
أغلب الوزارات تعاني هيكلاً موازياً نشأ خارج الأطر الرسمية
حتى تحولت الوزارات، لاسيما الخدمية منها، إلى ساحات تجارب لـ «فرق المستشارين»، التي يأتي أعضاؤها بالبراشوت بعيداً عن الأطر الإدارية الرسمية، تحت لافتات براقة مثل التطوير والتحفيز وتسريع الإنجازات، بينما الواقع يكشف عن ترضيات وتنفيعات وشراء ولاءات، تنتهي غالباً إلى تضارب في القرارات وتهميش للكفاءات، في جو غير صحي تغلب عليه الصراعات.
وأمام استمرار قرار وقف التنقلات بين الوزارات، الذي اتخذ منذ سنوات، لجأ بعض الوزراء إلى ثغرة قانونية مكشوفة، تتمثل في الاستعانة بخدمات مستشار، بموافقة مجلس الخدمة المدنية، ليمرروا من خلالها أسماءهم المفضلة، ملتفين بذلك على القرار الذي يمنع التنقلات.
وتوسعت هذه الظاهرة، التي فتحت على مصراعيها دون ضوابط واضحة، لتبرم من خلالها عقود مع مستشارين لا يتمتعون في كثير من الأحيان بأي خبرة حقيقية، سوى قربهم من الوزير أو انتمائهم السياسي أو العائلي، بل منهم من تم تعيينه مستشارا في أكثر من وزارة.
وفي بعض الوزارات بات «فريق المستشارين» هم من يوجهون المراسلات ويتخذون القرارات ويحددون الأولويات، بل ويقيمون أداء القيادات، من دون أي صفة تنفيذية أو مسؤولية قانونية، فيستدعون للاجتماعات ويشاركون في اللجان ويوصون بالترقيات ويسافرون في المهمات، وترفع إليهم الملفات المهمة، وتنفذ بالنهاية توصياتهم وكأنها «أوامر عليا» لا تقبل النقاش.
ظاهرة «المستشارين» بدأت مع الوزراء النواب، عندما حولوا وزاراتهم إلى «شركة خاصة» يستعينون فيها بخدمات مفاتيحهم الانتخابية والمقربين إليهم كمستشارين وخبراء، برواتب ضخمة ومهام فضفاضة، ليتحول مكتب الوزير إلى غرفة عمليات خارج النظم واللوائح، وأصبح بمنزلة حكومة خفية تأمر وتنهي.
ومع الوقت انتقلت العدوى إلى وزراء آخرين من غير النواب، ممن رأوا في هذه المنهجية وسيلة فعالة لتعزيز سطوتهم وتوسيع نفوذهم، حتى بات الأمر معتاداً وكأنه جزء من الحقيبة الوزارية.
وإن كان للوزير الحق في اختيار مستشاريه كما يقول المراقبون، إلا أنه لا يجب بأي حال التوسع المبالغ فيه، أو أن يمارسوا صلاحيات تنفيذية تتجاوز مهامهم التنظيمية، أو يسمح لهم بالتدخل في التعيينات والعقود وتشكيل الوفود الرسمية وغير ذلك، فمن غير المقبول أن يكونوا حكومة داخل الوزارة تصدر التعليمات وتحرك القرارات.
ويلخص قيادي كبير في إحدى الوزارات، فضل عدم ذكر اسمه، ما اعتبره مساوئ المستشارين في الوزارات، لاسيما بوزارته، في أمور عدة، بينها «عدم الإلمام التام بالآليات والقواعد المنظمة للعمل الإداري داخل الجهات الحكومية أو القوانين والقرارات واللوائح المنظمة للعمل، والصادرة عن ديوان الخدمة المدنية، مما يترتب عليه صدور بعض القرارات بالمخالفة لضوابط واشتراطات الديوان ووقوع الوزراء وقياديي ومسؤولي تلك الجهات في حرج كبير أمام الجهات الرقابية والمحاسبية في الدولة، وتسجيل ملاحظات مالية وإدارية عليهم».
يضاف إلى ذلك، بحسب القيادي، «محاولة التغول على صلاحيات الجهازين التنفيذي والإداري في الوزارات وتهميشهما عمداً لإظهار قوتهم وفرد عضلاتهم، مستغلين تبعيتهم لمكتب الوزير ولقب مستشار».
وأفاد بأنه لوحظ أن لديهم رغبة جامحة في العمل «خارج حدود مكتب الوزير»، ومحاولة توسيع سلطاتهم وتمدد صلاحياتهم التي وصلت إلى الالتقاء بصغار موظفي الوزارات والاستماع إلى شكواهم، في مخالفة صارخة وتدخل سافر في صميم عمل الشؤون القانونية بالوزارات المنوط بها تحقيق العدالة بين الموظفين والتحقيق في شكواهم وحل مشكلاتهم.
وأضاف أن معظم المستشارين أصدقاء أو أقارب أو «ربع» أو من الدائرة الضيقة للوزراء أو زملاء عمل قدامى، سواء في الجامعات أو القطاع الخاص، وبعضهم وللأسف محسوبون على «نواب سابقين» رغم استمرار تعطل أعمال مجلس الأمة، ومنهم من لعب دور «قياديي الظل» عبر الالتقاء والاجتماع ببعض جهات الدولة دون إبلاغ قياديي الوزارات حتى المعنيين منهم، مما يتسبب في إحراجهم وعدم المامهم بآخر مستجدات قطاعاتهم التي قد تقتصر معرفتها فقط على الوزراء ومستشاريهم.
ويرى المراقبون أن الاستعانة بفرق خارجية من دون توصيف وظيفي واضح تمثل انتهاكاً مباشراً لمبدأ الهيكلية الإدارية، وتقوض الانتماء الوظيفي وتضعف روح العمل الجماعي وتؤثر على إنتاجية الوزارة.
إن ظاهرة فريق الوزير تحولت من استثناء إلى قاعدة، ومن أداة دعم إلى وسيلة تغول، وتشكل تهديداً صريحاً للعمل المؤسسي، وتقود إلى إقصاء الكفاءات لمصلحة الولاءات، ومع تزايد الكلفة الإدارية والمالية لهذا الانفلات يبرز واجب الدولة عبر مجلس الوزراء للتدخل العاجل وضبط مسارات التعيين، وإغلاق الأبواب الخلفية التي باتت منفذاً لدخول أمثال هؤلاء... فهل تتحرك الحكومة أم عمك أصمخ؟
0 تعليق